العنف المنزلي يقتل والأنظمة تحمي الجاني.. مأساة ماريا تفضح الإهمال الرسمي

العنف المنزلي يقتل والأنظمة تحمي الجاني.. مأساة ماريا تفضح الإهمال الرسمي
إحدى ضحايا العنف المنزلي- أرشيف

العنف القائم على النوع الاجتماعي، وخاصة العنف الحميمي، لا يُختزل في السلوك الفردي، بل يُعبّر عن منظومة ثقافية وتشريعية ومؤسسية تشرعن التمييز وتمنح العنف صيغًا من التبرير. في ظل ضعف الإرادة السياسية، وغياب الآليات الدولية الفاعلة، يصبح الدفاع عن النساء ليس مجرد معركة قانونية، بل صراع حضاري ومجتمعي يتطلب إعادة تعريف للمفاهيم الأساسية.

وفي خضم تقدم المجتمعات الحديثة نحو العدالة والمساواة، تظل ظاهرة قتل النساء جرحًا عميقًا يعكس إخفاق الإنسانية في حماية أبسط حقوق الإنسان، وتبرز جريمة قتل عارضة الأزياء والمؤثرة الكولومبية ماريا خوسيه إستوبينان كدليل صارخ على هشاشة الأطر القانونية والاجتماعية في مواجهة العنف القاتل.

وقعت هذه الجريمة المروعة في 15 مايو 2025 بمدينة كوكوتا شمال شرق كولومبيا، حيث استهدف المهاجم ماريا بشكل مباشر حين فتحت باب منزلها، ليطلق النار عليها وهو متنكر بزي عامل توصيل، ما يدل على تخطيط مسبق.

وكشفت تحقيقات الشرطة الكولومبية، وفق تقرير صحيفة "الغارديان" البريطانية، أن الجاني فرّ من مسرح الجريمة خلال دقائق معدودة، كما وثقت كاميرات المراقبة هروبه، ما يؤكد درجة التنظيم والتخطيط التي صاحبت تنفيذ هذه الجريمة البشعة.

كانت ماريا ضحية سابقة للعنف المنزلي، وقد سبق أن أبلغت عن اعتداءات متعددة من شريكها السابق، ما دفع القاضي إلى إصدار حكم لمصلحتها قبل يوم واحد من مقتلها، يأمر المعتدي بتعويض مالي قدره 7000 دولار. ورغم هذا الحكم القضائي، لم تحظَ ماريا بالحماية اللازمة، وهو ما وصفته الناشطة النسوية أليخاندرا فيرا بأنه "تقاعس الدولة عن حمايتها"، ملوحة إلى أن غياب أوامر الحماية وعدم توفر ملاجئ كافية ومتابعة للمعتدين يجعل النساء فريسة سهلة للموت.

هذه المأساة تعكس واقعًا أعمق وأوسع في كولومبيا، حيث سجل المرصد الكولومبي لجرائم قتل النساء 886 جريمة في عام 2024، وهو أعلى رقم منذ سبع سنوات، مع توثيق 207 حالات جديدة حتى مارس 2025. 

وقد أقر مكتب المدعي العام بوقوع 640 جريمة حتى نوفمبر 2024، لكن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى، لأن كثيرًا من القضايا لا يتم تسجيلها أو متابعتها بجدية، وتعرف المنظمات الحقوقية هذه الجرائم بأنها "قتل النساء بسبب جنسهن"، موجهة سهام النقد إلى ضعف تطبيق القوانين التي تحظر العنف القائم على النوع الاجتماعي، فمنظمة هيومن رايتس ووتش سلطت الضوء مرارًا على أن مرتكبي هذه الجرائم نادرًا ما يُحاسبون، وأن جهاز الشرطة يعاني من نقص في الكوادر والموارد، والمدّعون يفتقرون للتدريب اللازم، ما يزيد من الإفلات من العقاب.

ظاهرة متجذرة في هياكل المجتمعات

تأتي هذه الأرقام والملاحظات لتثبت أن قتل النساء بسبب العنف المنزلي ليس حالة معزولة، بل ظاهرة متجذرة في هياكل المجتمعات والمؤسسات ففي كولومبيا، وحدها، بين 2021 و2023، لم تُحل 73% من جرائم قتل النساء، بحسب الشبكة الوطنية للمرأة، ما يشير إلى أزمة حقيقية في آليات تحقيق العدالة.

ويزيد من مأساة الموقف أن السلطات والقوانين رغم وجودها، غالبًا ما تبقى على الورق، غير قادرة على حماية ضحايا العنف، ما يعكس فجوة مريعة بين النصوص القانونية والواقع المرير.

لكن كولومبيا ليست الوحيدة التي تشهد هذه المأساة على الصعيد الدولي، حيث تعد جرائم قتل النساء بسبب العنف المنزلي وبسبب النوع الاجتماعي واحدة من أكثر الظواهر دموية التي تواجهها البشرية اليوم، ووفقًا لتقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) لعام 2023، تُقتل أكثر من 87,000 امرأة سنويًا في العالم على يد شركاء حميمين أو أفراد من الأسرة، ما يعني أن ما يقرب من ثلث جميع حالات قتل النساء مرتبطة بالعنف المنزلي ويشير التقرير إلى أن القارة الأمريكية تسجل أعلى معدلات قتل النساء، تليها إفريقيا، ثم آسيا وأوروبا.

في دول مثل المكسيك والبرازيل، تواجه النساء خطرًا متزايدًا من جرائم القتل على يد شركائهن السابقين أو الحاليين، رغم وجود قوانين صارمة نسبيًا لحمايتهن. فبحسب المعهد الوطني للإحصاء والجغرافيا في المكسيك (INEGI)، تم تسجيل أكثر من 1,000 حالة قتل نسائية في 2024، ويُعتقد أن العدد الفعلي أعلى بسبب الإبلاغ غير الكامل، في البرازيل، أظهرت بيانات وزارة الأمن العام ارتفاعًا بنسبة 7% في جرائم قتل النساء بين 2023 و2024، مع نقص واضح في تنفيذ إجراءات الحماية.

في أوروبا، تتفاوت الأرقام، لكن التقرير الأوروبي للحقوق الأساسية عام 2023 يشير إلى أن امرأة واحدة تموت كل ثلاثة أيام تقريبًا بسبب العنف المنزلي في الاتحاد الأوروبي، مع تسجيل ما يزيد عن 500 حالة سنويًا  وكما في بقية العالم، فإن الإفلات من العقاب يشكل تحديًا رئيسيًا.

أما في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فالأرقام أقل وضوحًا بسبب ضعف الإبلاغ والبيانات الرسمية، لكن منظمات حقوق الإنسان تحذر من ارتفاع معدلات العنف المنزلي وقتل النساء، مع غياب آليات فعالة لحمايتهن وأفادت تقارير من منظمة العفو الدولية بأن أكثر من 50% من النساء في بعض دول المنطقة يعانين من أشكال مختلفة من العنف المنزلي، مع وجود حالات قتل نسائية لا يتم التحقيق فيها بشكل كافٍ.

تحديات كبيرة ومعقدة

ورغم الجهود المتزايدة لمواجهة ظاهرة قتل النساء بسبب العنف المنزلي على مستوى العالم، لا تزال التحديات كبيرة ومعقدة، حيث تظهر بيانات الأمم المتحدة أن أقل من 40% من النساء اللاتي يتعرضن للعنف يطلبن المساعدة، ما يعكس الخوف والوصمة الاجتماعية التي تحيط بالضحايا، ففي كولومبيا، مثلًا، شهدت الفترة التي تلت مقتل ماريا خوسيه إستوبينان احتجاجات حاشدة شارك فيها أكثر من 15,000 مواطن طالبوا بإنهاء الإفلات من العقاب وتوفير ملاجئ آمنة للنساء، برغم أن هذه الملاجئ لا تزال تعاني من نقص الموارد رغم زيادة بنسبة 20% منذ 2022.

على الصعيد المؤسسي، طُورت برامج تدريبية موجهة للشرطة والقضاة لتعزيز فهمهم لقضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي، مع ارتفاع بنسبة 35% في عدد الدورات التدريبية بأمريكا اللاتينية خلال العامين الماضيين. وتقدم منظمة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women) مساعدات تقنية لأكثر من 50 دولة تشمل أنظمة إنذار مبكر لرصد حالات العنف، ما ساهم في تحسين حماية النساء بنسبة 12% في تلك الدول، لكنه يبقى بعيدًا عن الطموحات.

إحصائيًا، تظل جرائم قتل النساء مرتفعة، حيث تُقتل امرأة كل ثلاث ساعات بسبب العنف المنزلي، ووفق منظمة الصحة العالمية، بمتوسط 50,000 حالة سنويًا على الصعيد العالمي، وتمتد الآثار النفسية والاجتماعية إلى الأسر والمجتمعات، إذ يعاني 60% من أطفال الأسر التي شهدت عنفًا منزليًا من اضطرابات نفسية طويلة الأمد، وفق دراسة جامعة هارفارد 2023.

في مواجهة هذه التحديات، شهد العالم تحديثًا واسعًا لقوانين الحماية من العنف على أساس النوع الاجتماعي في أكثر من 70 دولة خلال خمس سنوات، مع حملات توعية زادت من معدلات التبليغ والطلب على الدعم.

العنف الموجّه للنساء نتاج بنية ذكورية 

في ظل التصاعد المستمر لحالات العنف القائم على النوع الاجتماعي، يؤكد خبراء وحقوقيون أن العنف الموجّه ضد النساء لا يمثل حوادث فردية معزولة، بل هو نتاج بنية ثقافية وتشريعية واجتماعية تكرّس التمييز وتبرّر الانتهاك.

يرى ياسر سعد، المحامي والناشط في قضايا حقوق المرأة، أن العنف ضد النساء هو "نتيجة لتراكم تاريخي لصورة دونية" للمرأة في الوعي الجمعي، ويُعاد إنتاجه داخل التشريعات، والمؤسسات الدينية، والمجال العام، حيث "تُمنح الذكورية شرعية ثقافية تجعل العنف متوقعًا ومقبولًا ضمنيًا".

تشريعات تُنتج العنف لا تردعه

يشير سعد في تصريح لـ"جسور بوست" إلى أن البيئة التشريعية تعاني من انحياز بنيوي واضح، فالمُشرّع رجل في الغالب، ما يجعل القوانين متأثرة بالثقافة الذكورية حتى عند تغليظ العقوبات. ويضيف: "هناك دومًا هامش من الاستثناء يُبرّر العنف، سواء لأسباب دينية أو مجتمعية أو حتى تحت مسمى الأعراف".

ويؤكد أن بعض الأحكام القضائية المنصفة للنساء لا تعكس تطورًا حقيقيًا في القضاء، بل تكون غالبًا نتيجة لضغط اجتماعي أو حراك نسوي، في حين أن القضايا التي لا تحظى بنفس الاهتمام كثيرًا ما تُواجه بأحكام مجحفة تكشف هشاشة العدالة.

يلفت سعد إلى مفارقة لافتة: "في الوقت الذي تزداد فيه جرأة الحركات النسوية، تواجه تلك الحركات قمعًا ممنهجًا من الدولة عبر الاعتقالات والملاحقات وتشويه الرموز، ما يؤدي إلى تغييب أصوات النساء وتآكل مكتسباتهن".

الفقر وتراجع الخدمات

يُحمّل سعد سياسات الإفقار مسؤولية تصاعد العنف، مؤكدًا أن تدهور الخدمات الصحية والتعليمية يجعل النساء أكثر عرضة للضغط والاستغلال، خاصة حين يتحملن أعباء تعويض غياب الدولة داخل الأسرة، ما يزيد من هشاشتهن الاقتصادية والنفسية.

ويؤكد أن المجتمع لا يزال ينظر إلى النساء باعتبارهن "فئة دونية"، ما يُبرّر في وعي البعض العنف الجسدي، بل حتى القتل، باعتباره "تصرفًا مبررًا لاستعادة الهيبة".

يشدد سعد على ضرورة وجود آليات دولية ملزمة تراقب تنفيذ الدول للاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية "سيداو"، منتقدًا التحفظات التي تُبقي الالتزامات الدولية في إطار "الشعارات الورقية".

ويطالب بدور أكثر صرامة من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، لضمان تحول الاتفاقيات من نصوص إلى حماية فعلية للنساء، خصوصًا في الدول التي تضع الدين والأمن القومي كذرائع للتنصل من التزاماتها.

فرويز: الثقافة الذكورية تشرعن العنف 

من جانبه، يرى الدكتور جمال فرويز، الخبير النفسي والاجتماعي، أن العنف المنزلي لا يُفهم كما يجب من قبل الأنظمة القضائية، التي تُقلل من خطورته وتتعامل معه كمشكلة عائلية لا كجريمة تحمل أبعادًا نفسية واجتماعية عميقة.

ويقول في تصريح لـ"جسور بوست" إن الثقافة المجتمعية لا تزال تعد المرأة "ملكية"، وإن بعض الرجال يرون في إيذائها وسيلة "لاستعادة الهيبة"، في ظل تفكيك مفاهيم الرجولة إلى سلطة وتحكم، ومفاهيم الحب إلى امتلاك وقهر.

جذور العنف تُزرع في الطفولة والتنشئة

يوضح فرويز أن الطفل الذكر يُربّى غالبًا على مفهوم الرجولة المرتبطة بالهيمنة، فيما تُلقَّن الفتاة الطاعة كوسيلة للبقاء، ما يؤدي لاحقًا إلى علاقات مشوّهة تتداخل فيها الغيرة مع السيطرة، والتعلق مع العنف.

ويؤكد أن العنف المنزلي لا يمكن معالجته بالقانون وحده، بل يتطلب تغييرًا جذريًا في مفاهيم التربية، والتعليم، والإعلام، بما يكرّس ثقافة الاحترام المتبادل وحدود التعلق الصحي.

ينتقد فرويز أداء الإعلام الذي يرى أنه "لا يكفي أن يوثق الجريمة"، بل عليه أن يحلل السياق ويفكك القوالب النمطية التي تصور النساء كضحايا دائمات أو كأسباب في العنف المُوجَّه ضدهن.

ويضيف: "ما نحتاجه هو إحداث صدمة معرفية لدى المتلقي، لا تعاطفًا عابرًا ينتهي بانتهاء الخبر"، مؤكدًا أن كل جريمة قتل امرأة هي صفعة للمجتمع وقيمه، وتذكير بأن الصمت نوع من الشراكة في الجريمة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية